• رئيس التحرير: صلاح عبدالله العطار

  • En

بكتيريا مُبرمَجة وأدوية حيَّة: الطب في عصر الذكاء الاصطناعي..

في يوم ما، ستستيقظ صباحًا دون الحاجة إلى تناول أي دواء. لن تفتح علبة الكبسولات، ولن تبحث عن الماء، ولن تشعر بذلك القلق المزمن المرتبط بجرعة فائتة أو أعراض جانبية جديدة.

بدلًا من ذلك، سيكون العلاج قد بدأ قبل أن تفتح عينيك. في مكان ما داخل جسدك، تعمل بكتيريا دقيقة «مبرمجة ومتصلة بنظام ذكاء اصطناعي» على مراقبة جسمك من الداخل. تستشعر تغيرات طفيفة لا تشعر بها، تحلل البيانات، وتتخذ قرارًا: الوقت مناسب الآن لإنتاج كمية ضئيلة من الجزيء العلاجي. لا حاجة لطلب إذن، ولا وصفة طبية، ولا تدخل بشري.


تبدو كقصة من الخيال العلمي؟ ربما، لكن الحقيقة أن هذا المستقبل أقرب مما نتصور.

في تقاطع فريد بين علم الأحياء والذكاء الاصطناعي، يعمل العلماء على تطوير نوع جديد من الأدوية: أدوية رقمية، تتم برمجتها لتعيش داخل الجسم، وتنتج الدواء المناسب، في المكان المناسب، في التوقيت الدقيق. إنها ليست مجرد أدوات طبية، بل كيانات بيولوجية ذكية، قادرة على الفهم والاستجابة والتكيف.

في هذا المقال، نغوص معًا في أعماق هذا العالم الثوري، لنكتشف كيف نشأت فكرة الدواء الرقمي، وما الدور الذي يلعبه الذكاء الاصطناعي في تصميمه وتوجيهه داخل الجسد.

من فكرة طموحة إلى أبحاث متقدمة لم تكن فكرة أن يصنع الجسم دواءه بنفسه جديدة تمامًا، فقد راودت خيال العلماء لعقود، لكن ما كان ينقصها هو التكنولوجيا التي تمنح البكتيريا القدرة على التفكير واتخاذ القرار. ومع تطور علم الهندسة الوراثية وظهور تقنيات البيولوجيا التركيبية، بدأ الباحثون في تخيل سيناريو أكثر جرأة: ماذا لو قمنا ببرمجة بكتيريا نافعة لتصبح مصنعًا صغيرًا يعيش داخل الأمعاء؟ ليس مجرد كائن حي يتطفل أو يتعايش، بل وحدة ذكية تُنتج مركبات دوائية عند الحاجة.

وهنا دخل الذكاء الاصطناعي على الخط، ليرفع هذا الحلم إلى مستوى غير مسبوق. فلم يعد الأمر مقتصرًا على برمجة ثابتة تقوم بها البكتيريا طوال الوقت، بل أصبح بالإمكان تزويدها بخوارزميات تُشبه إلى حد ما نظامًا عصبيًا بدائيًا، تستشعر بيئة الجسد، تحلل البيانات الحيوية، وتقرر: هل حان الوقت لإنتاج الدواء؟ أم أن الجسد بخير ويجب أن ننتظر؟

بهذه الطريقة، تتحول البكتيريا إلى كائنات علاجية دقيقة، تُشبه الأطباء الصامتين الذين لا ينامون، يعيشون داخلنا، ويتخذون القرار الصحيح في اللحظة المناسبة.

دور الذكاء الاصطناعي لتحويل البكتيريا إلى «كائن علاجي ذكي»، يبدأ العلماء بعملية تُسمى الهندسة الجينية، وهي تعديل الحمض النووي للبكتيريا لإضافة وظائف جديدة لم تكن موجودة فيها طبيعيًا. في هذه الحالة، يتم إدخال جينات صناعية، أي أجزاء من الشيفرة الوراثية، مسؤولة عن تصنيع مركبات معينة، مثل إنزيمات تُعالج مرضًا محددًا. لكن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد، بل تُضاف أيضًا أجزاء تُشبه «مفاتيح التشغيل» تُعرف بالعناصر المنظمة، وهي التي تعمل كمستشعرات داخلية.

هنا يأتي دور الذكاء الاصطناعي، وتحديدًا نماذج تعلم الآلة، ليساعد العلماء على اختيار الجينات المناسبة وتصميم الترتيبات الجينية الأكثر فاعلية. فالخريطة الجينية للبكتيريا بالغة التعقيد، وهناك مليارات من الاحتمالات عند تعديلها.

لكن الذكاء الاصطناعي يمكنه تحليل قواعد بيانات ضخمة من التجارب السابقة، والتنبؤ بكيفية استجابة البكتيريا للبيئة داخل جسم الإنسان، بل ويمكنه محاكاة كيف ستتفاعل مع أمراض مختلفة أو أنظمة غذائية معينة. كما يساعد في تحسين كفاءة المستشعرات الجينية، وضبط مستوى الإنتاج الدوائي بدقة، بحيث لا يكون أكثر أو أقل من اللازم.

بعبارة أخرى، يتم استخدام الذكاء الاصطناعي كأداة تصميم، واختبار، وتوقع، تجعل من الممكن برمجة بكتيريا دقيقة جدًا في سلوكها، وتتصرف داخل الجسم كما لو كانت جهازًا ذكيًا يستشعر الخطر ويتدخل في اللحظة المناسبة.

تجارب واقعية تشبه الخيال رغم أن الفكرة قد تبدو للوهلة الأولى ضربًا من الخيال العلمي، إلا أن مختبرات علمية رائدة حول العالم بدأت فعليًا في تحويلها إلى حقيقة ملموسة. ففي جامعة MIT، ساهم علماء الأحياء والهندسة في تأسيس شركة تُدعى Synlogic، وهي من أوائل الشركات التي نجحت في تطوير بكتيريا نافعة مبرمجة وراثيًا، قادرة على إنتاج مركبات علاجية داخل الجسم.

البكتيريا الذكية لعلاج ارتفاع الأمونيا في واحدة من أكثر التجارب طموحًا في عالم الطب الحيوي، عملت شركة Synlogic على تطوير نوع من البكتيريا المعدلة وراثيًا يُدعى SYNB1020، بهدف معالجة اضطراب نادر يُعرف باسم اضطراب دورة اليوريا، والذي يؤدي إلى تراكم مادة الأمونيا السامة في الدم بسبب خلل جيني يمنع الجسم من التخلص من النيتروجين الزائد.

اعتمدت الفكرة على استخدام سلالة آمنة من بكتيريا E. coli Nissle 1917، تم تعديلها جينيًا بحيث تكتشف ارتفاع مستويات الأمونيا داخل الأمعاء وتبدأ فورًا في تحويلها إلى حمض أميني غير سام يُدعى أرجينين، يمكن للجسم التخلص منه بشكل طبيعي.